سورة النساء - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


ولما كان الإرث بالمصاهرة أضعف من الإرث بالقرابة ذكره بعده، وقدمه على الإرث بقرابة الأخوة تعريفاً بالاهتمام به ولأنه بلا واسطة، وقدم منه الرجل لأنه أفضل فقال: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} وبين شرط هذا بقوله: {إن لم يكن لهن ولد} أي منكم أو من غيركم، ثم بين الحكم على التقدير الآخر فقال: {فإن كان لهن ولد} أي وارث وإن سفل سواء كان ابناً أو بنتاً {فلكم الربع مما تركن} أي تركت كل واحدة منهن، ويغسلها الزوج لأن الله أضافها إليه باسم الزوجية، والأصل الحقيقة، ولا يضر حرمة جماعها بعد الموت وحلُّ نكاح أختها وأربع سواها، لأن ذلك لفقد المقتضي أو المانع وهو الحياة، وذلك لا يمنع علقة النكاح المبيح للغسل- كما لم يمنعها لأجل العدة لو كان الفراق بالطلاق، ثم كرر حكم الوصية اهتماماً بشأنها فقال: {من بعد وصية يوصين بها} أي الأزواج أو بعضهن، ولعله جمع إشارة إلى أن الوصية أمر عظيم ينبغي أن يكون مستحضراً في الذهن غير مغفول عنه عند أحد من الناس {أو دين}.
ولما بين إرث الرجل أتبعه إرثها فقال معلماً أنه على النصف مما للزوج- كما مضى في الأولاد-: {ولهن} أي عدداً كن أو لا {الربع مما تركتم} أي يشتركن فيه على السواء إن كن عدداً، وتنفرد به الواحدة إن لم يكن غيرها، ثم بين شرطه بقوله: {إن لم يكن لكم ولد} ثم بين حكم القسم الآخر بقوله: {فإن كان لكم ولد} أي وارث {فلهن الثمن مما تركتم} كما تقدم في الربع، ثم كرر الخروج عن حق الموروث فقال: {من بعد وصية توصون بها أو دين}.
ولما فرغ من قسمي ما اتصل بالميت بلا واسطة أتبعه الثالث وهو ما اتصل بواسطة، ولما كان قسمين، لأنه تارة يتصل من جهة الأم فقط وهم الأخياف، أمهم واحدة وآباؤهم شتى، وتارة من جهة الأب فقط وهم العلات، أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، وتارة من جهة الأبوين وهم الأعيان، وكانت قرابة الأخوة أضعف من قرابة البنوة؛ أكدها بما يقتضيه حالها، فجعلها في قصتين، ذكر إحداهما هنا إدخالاً لها في حكم الوصية المفروضة، وختم بالأخرى السورة لأن الختام من مظنات الاهتمام.
ولما كانت قرابة الأم أضعف من قرابة الأب قدمها هنا دلالة على الاهتمام بشأنها، وأن ما كانوا يفعلونه من حرمان الإناث خطأ وجور عن منهاج العدل، فقال تعالى: {وإن كان} أي وجد {رجل يورث} ي من ورث حال كونه {كلالة} أي ذا حالة لا ولد له فيها ولا والد، أو يكون يورث من: أورث- بمعنى أن إرث الوارث بواسطة من مات كذلك: لا هو ولد للميت ولا والد، ووارثه أيضاً كلالة لأنه ليس بوالد ولا ولد، فالمورث كلالة وارثه، والوارث كلالة مورثة؛ قال الأصبهاني: رجل كلالة، وامرأة كلالة، وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع، لأنه مصدر كالدلالة والوكالة، وهو بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوة من الإعياء، وقد تطلق الكلالة على القرابة من غير جهة الولد والوالد، ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة {أو} وجدت {امرأة} أي تورث كذلك، ويجوز أن يكون {يورث} صفة، و{كلالة} خبر كان {وله} خبر كان {وله} أي للمذكور وهو الموروث على أي الحالتين كان.
ولما كان الإدلاء بمحض الأنوثة يستوي بين الذكر والأنثى لضعفها قال {أخ أو أخت} أي من الأم- بإجماع المفسرين، وهي قراءة أبيّ وسعد بن مالك رضي الله عنهما {فلكل واحد منهما السدس} أي من تركته، من غير فضل للذكر على الأنثى.
ولما أفهم ذلك- أي بتحويل العبارة المذكورة من أن يقال: فله السدس- أنهما إن كانا معاً كان لهما الثلث، وكان ذلك قد يفهم أنه إن زاد وارثه زاد الإرث عن الثلث نفاه بقوله: {فإن كانوا} أي ما أفهمه {أخ أو أخت} من الوراث منهم {أكثر من ذلك} أي واحد، كيف كانوا {فهم شركاء} أي بالسوية {في الثلث} أي المجتمع من السدسين اللذين تقدم أنهما بينهما، لا يزادون على ذلك شيئاً، ثم كرر الحث على مصلحة الميت بياناً للاهتمام بها فقال: {من بعد وصية يوصى بها أو دين}.
ولما كان الميت قد يضار ورثته، أو بعضهم بشيء يخرجه عنهم ظاهراً أو باطناً كأن يقر بماله لأجنبي، أو بدين لا حقيقة له، أو بدين كان له بأنه استوفاه؛ ختم الآية بالزجر عن ذلك بقوله: {غير مضار} مع ما تقدم من الإشارة إلى ذلك أول القصة بقوله: {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً} [النساء: 11]؛ قال الأصبهاني: والإضرار في الوصية من الكبائر، ثم أكد ذلك بقوله مصدراً ليوصيكم: {وصية من الله} أي الذي له الأمر كله مع تأكيده بجميع ما في الآيات تعظيماً للأمر باكتناف الوصية بأولها وأخرها، وهو دون الفريضة في حق الأولاد، لأن حقهم آكد.
ولما بين سبحانه الأصول وفصل النزاع، وكان ذلك خلاف مألوفهم وكان الفطام عن المألوف في الذروة من المشقة؛ اقتضى الحال الوعظ بالترغيب والترهيب، فختم القصة بقوله: {والله} أي الجامع لصفات الكمال من الجلال والجمال، وللإشارة إلى عظيم الوصية كرر هذا الاسم الأعظم في جميع القصة، ثم قال: {عليم} أي فلا يخفى عليه أمر من خالف بقول أو فعل، نية أو غيرها {حليم} فهو من شأنه أن لا يعاجل بالعقوبة فلا يغتر بإمهاله، فإنه إذا أخذ بعد طول الأناة لم يفلت فاحذروا غضب الحليم! وفي الوصفين مع التهديد استجلاب للتوبة.


ولما كان فطم أنفسهم عن منع الأطفال والنساء شديداً عليهم لمرونهم عليه بمرور الدهور الطويلة على إطباقهم على فعله واستحسانهم له أتبعه سبحانه الترغيب والترهيب لئلا يغتر بوصف الحليم، فقال معظماً للأمر بأداة البعد ومشيراً إلى جميع ما تقدم من أمر المواريث والنساء واليتامى وغيره: {تلك} أي هذه الحدود الجليلة النفع العظيمة الجدوى المذكورة من أول هذه السورة، بل من أول القرآن {حدود الله} أي الملك الأعظم، فمن راعاها- ولو لم يقصد طاعته، بل رفعاً لنفسه عن دناءة الإخلاد إلى الفاني ومعرة الاستئثار على الضعيف المنبئ عن البخل وسفول الهمة- نال خيراً كبيراً، فإنه يوشك أن يجره ذلك إلى أن يكون ممن يطيع الله {ومن يطع الله} الحائز لصفتي الجلال والإكرام {ورسوله} أي في جميع طاعاته هذه وغيرها، بالإقبال عليها وترك ما سواها لأجله سبحانه؛ قال الأصبهاني: {من} عام ووقوعه عقيب هذه التكاليف الخاصة لا يخصصه.
ولما تشوف السامع بكليته إلى الخبر التفت إليه تعظيماً للأمر- على قراءة نافع وابن عامر بالنون- فقال: {ندخله جنات} أي بساتين، وقراءة الجماعة بالياء عظيمة أيضاً لبنائها على الاسم الأعظم وإن كانت هذه أشد تنشيطاً بلذة الالتفات {تجري من تحتها الأنهار} أي لأن أرضها معدن المياه، ففي أي موضع أردت جرى نهر. فهي لا تزال يانعة غضة، وجمع الفائزين بدخول الجنة في قوله: {خالدين فيها} تبشيراً بكثرة الواقف عند هذه الحدود، ولأن منادمة الإخوان من أعلى نعيم الجنان.
ولما كان اختصاصهم بالإرث عن النساء والأطفال من الفوز عندهم، بل لم يكن الفوز العظيم عندهم إلا الاحتواء على الأموال وبلوغ ما في البال منها من الآمال قال تعالى معظماً بأداة البعد: {وذلك} أي الأمر العالي المرتبة من الطاعة المندوب إليها {الفوز العظيم} أي لا غيره من الاحتواء على ما لم يأذن به الله، وهذا أنسب شيء لتقديم الترغيب لتسمح نفوسهم بترك ما كانوا فيه مع ما فيه من التلطف بهذه الأمة والتبشير له صلى الله عليه وسلم بأنها مطيعة راشدة.
ولما أشربت القلوب الصافية ذوات الهمم العالية حب نيل هذا الفوز أتبعه الترهيب فطماً لها عن تلك الفوائد بالكلية فقال: {ومن يعص الله} أي الذي له العظمة كلها {ورسوله} أي في ذلك وغيره {ويتعد حدوده} أي التي حدها في هذه الأحكام وغيرها، وأفرد العاصي في النيران في قوله: {يدخله ناراً خالداً فيها} لأن الانفراد المقتضي للوحشة من العذاب والهوان، ولما كان منعهم للنساء والأطفال من الإرث استهانة بهم ختم الآية بقوله: {وله عذاب مهين}.
ولما تقدم سبحانه في الإيصاء بالنساء، وكان الإحسان في الدنيا تارة يكون بالثواب، وتارة يكون بالزجر والعتاب، لأن مدار الشرائع على العدل والإنصاف، والاحتراز في كل باب عن طرفي الإفراط والتفريط، وختم سبحانه بإهانة العاصي إحساناً إليه بكفه عن الفساد، لئلا يلقيه ذلك إلى الهلاك أبد الآباد، وكان من أفحش العصيان الزنى، وكان الفساد في النساء أكثر، والفتنة بهن أكبر، والضرر منهن أخطر، وقد يدخلن على الرجال من يرث منهم من غير أولادهم؛ قدمهن فيه اهتماماً بزجرهن فقال: {واللاتي} وهو جمع التي ولعله عبر فيهن بالجمع إشارة إلى كثرتهن- كما أشار إلى ذلك: {مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3] وإلى كثرة الفساد منهن {يأتين} أي يفعلن- من إطلاق السبب على المسبب، والتعبير به أبلغ {الفاحشة} أي الفعلة الشديدة الشناعة، وفي الآية- لأن من أعظم المرادات بنظمها عقب آيات الإرث وما تقدمها الاحتياط للنسب- إشارة بذكر عقوبة الزانية من غير تعرض لإرث الولد الآتي منها إلى أن الولد للفراش، وأنه لا ينفي بالمظنة، بل بعد التحقق على ما في سورة النور، لأنه لا يلزم من وجود الزنى نفيه، وكونه من الزنى، قال أبو حيان في النهر: والفاحشة هنا الزنى بإجماع المفسرين إلا ما ذهب إليه مجاهد وتبعه أبو مسلم الأصفهاني من أنها المساحقة، ومن الرجال اللواط، ثم بين الموصول بقوله: {من نسائكم} أي الحرائر {فاستشهدوا} أي فاطلبوا أن تشهدوا {عليهن أربعة} من الرجال.
ولما كان تعالى قد جعل هذه الأمة وسطاً يقبلون على غيرهم ولا يقبل غيرهم عليهم قال: {منكم} أي من عدول المسلمين بأنهن فعلنها {فإن شهدوا} أي بذلك {فأمسكوهن} أي فاحبسوهن {في البيوت} أي وامنعوهن من الخروج، فإن ذلك أصون لهن، وليستمر هذا المنع {حتى يتوفاهن الموت} أي يأتيهن وهن وافيات الأعراض {أو يجعل الله} المحيط علمه وحكمته {لهن سبيلاً} اي للخروج قبل الموت بتبين الحد أو بالنكاح، وإن لم يشهد الأربعة لم يفعل بهن ذلك وإن تحقق الفعل.


ولما ذكر أمر النساء أتبعه حكم الرجال على وجه يعم النساء أيضاً فقال: {والّذان} وهو تثنية الذي وشدد نونه ابن كثير تقوية له ليقرب من الأسماء المتمكنة {يأتيانها منكم} أي من بكر أو ثيب، أو رجل أو امرأة، ويثبت ذلك بشهادة الأربعة- كما تقدم {فآذوهما} وقد بين مجمل الأذى الصادق باللسان وغيره آية الجلد وسنة الرجم {فإن تابا} أي بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود {وأصحا} أي بالاستمرار على ما عزما عليه، ومضت مدة علم فيها الصدق في ذلك {فأعرضوا عنهما} أي عن أذاهما، وهو يدل على أن الأذى باللسان يستمر حتى يحصل الاستبراء، ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {كان تواباً} أي رجاعاً بمن رجع عن عصيانه إلى ما كان فيه من المنزلة {رحيماً} أي يخص من يشاء من عباده بالتوفيق لما يرضاه له، فتخلقوا بفعله سبحانه وارحموا المذنبين إذا تابوا، ولا يكن أذاكم لهم إلا لله ليرجعوا، وليكن أكثر كلامكم لهم الوعظ بما يقبل بقلوبهم إلى ما ترضاه الإلهية، ويؤيده أن المراد بهذا البكر والثيب من الرجال والنساء تفسير النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه مسلم والأربعة والدارمي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» فالحديث مبين لما أجمل في الآية من ذكر السبيل.
ولما ختم ذلك بذكر توبة الزناة، وكان الحامل على الزنى- على ما يقتضيه الطبع البشري- شدة الشبق وقلة النظر في العواقب، وكان ذلك إنما هو في الشباب؛ وصل بذلك قوله تعالى معرفاً بوقت التوبة وشرطها مرغباً في تعجيلها مرهباً من تأخيرها: {إنما التوبة} وهي رجوع العبد عن المعصية اعتذاراً إلى الله تعالى، والمراد هنا قبولها، سماه باسمها لأنها بدون القبول لا نفع لها، فكأنه لا حقيقة لها.
ولما شبه قبوله لها بالواجب من حيث إنه بها، لأنه لا يبدل القول لديه؛ عبر بحرف الاستعلاء المؤذن بالوجوب حثاً عليها وترغيباً فيها فقال: {على الله} أي الجامع بصفات الكمال {للذين يعملون السوء} أيَّ سوء كان من فسق أو كفر، وقال: {بجهالة} إشارة إلى شدة قبح العصيان، لا سيما الزنى من المشايخ، لإشعار السياق ترهيباً بأن الأمر فيهم ليس كذلك- كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البزار بإسناد جيد عن سلمان رضي الله عنه: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: الشيخ الزاني، والإمام الكذاب، والعائل المزهو» وهو في مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر» وهو عن كثير من الصحابة من طرق كثيرة، وذلك لأن حضور الموت بالقوة القريبة من الفعل وإضعاف القوى الموهنة لداعية الشهوة قريب من حضوره بالفعل، وذلك ينبغي أن يكون مذهباً لداعية الجهل، ماحقاً لعرامة الشباب، سواء قلنا: إن المراد بالجهالة ضد الحلم، أو ضد العلم؛ قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي: قال أبو عبد الله- يعني القزاز: والجاهلية الجهلاء اسم وقع على أهل الشرك يكون مأخوذاً من الجهل الذي هو ضد العلم والذي هو ضد الحلم قال وأصل الجهل من قولهم: استجهلت الريح الغصن- إذا حركته، فكأن الجهل إنما هو حركة تخرج عن الحق والعلم- انتهى. فالمعنى حينئذ: يعملون السوء ملتبسين بسفه أو بحركة وخفة أخرجتهم عن الحق والعلم فكانوا كأنهم لا يعلمون- بعملهم عمل أهل الجاهلية الذين لا يعلمون، وزاد في التنفير من مواقعة السوء والتحذير بقوله: {ثم يتوبون} أي يجددون التوبة.
ولما كان المراد الترغيب فيها ولو قصر زمنها بمعاودة الذنب أثبت الجار فقال: {من} أي من بعض زمان {قريب} أي من زمن المعصية وهم في فسحة من الأجل، وذلك كناية عن عدم الإصرار إلى الموت، ولعله عبر بثم إشارة إلى بُعد التوبة ولا سيما مع القرب ممن واقع المعصية، لأن الغالب أن الإنسان إذا ارتبك في حبائلها لا يخلص إلا بعد عسر، ولذلك أشار إلى تعظيمهم بأداة البعد في قوله- مسبباً عن توبتهم واعداً أنه فاعل ما أوجبه على نفس لا محالة من غير خلف وإن كان لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء: {فأولئك} أي العظيمو الرتبة الصادقو الإيمان {يتوب الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {عليهم} أي يردهم إلى ما كانوا فيه عندهم من مكانة القرب قبل مواقعة الذنب {وكان الله} أي المحيط علماً وقدرة {عليماً} أي بالصادقين في التوبة والكاذبين وبنياتهم، فهو يعاملهم بحسب ما يقتضيه حالهم {حكيماً} فهو يضع الأشياء في أحكم محل لها، فمهما فعله لم يمكن نقضه.
ولما بين سبحانه المقبول أتبعه المطرود فقال: {وليست التوبة} أي قبولها {للذين يعملون السيئات} أي واحدة بعد أخرى مصرين عليها فسقة كانوا أو كفرة، غير راجعين من قريب، بل يمهلون {حتى إذا حضر} ولما كان تقديم المفعول- على وجه يجوّز كل سامع وقوعه عليه- أهول، لكونه يصير مرتقباً حال فاعله، خائفاً من عاقبته قال: {أحدهم الموت} أي بأن وصل إلى حد الغرغرة، وهي حالة المعاينة {قال} أي بلسانه كفرعون، أو قلبه {إني تبت الآن} فبين أن ما قبل الاحتضار قريب مع الترغيب في المسارعة جداً بالتعبير بقريب {ولا الذين} أي وليست التوبة للذين {يموتون وهم كفار} حقيقة أو مجازاً، من غير أن يتوبوا، ولا عند الغرغرة، فسوى بين الفسق والكفر تنفيراً من الفسق لصعوبة النزع عنه بعد مواقعته، ولذلك جمعهما في العذاب بقوله- جواباً لمن كأنه قال: فما جزاء هذين الصنفين: {أولئك} أي البعداء من الرحمة، الذين لم يتوبوا إلا حال الغرغرة، والذين ماتوا مصرين {أعتدنا} أي هيأنا وأحضرنا {لهم عذاباً} ولما كان تأخير التوبة لذة نفسانية ختم بقوله: {أليماً} أي نعذب به الكافرين ومن شئنا من عصاة المؤمنين، لأن توبتهم في تلك الحالة عدم، والميت من غير توبة من المؤمنين في المشيئة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8